«حكم العسكر» والتحول
الديمقراطي: 3 تجارب لإصلاح المؤسسات العسكرية
تمر الدول في مسيرتها بفترات انتقالية، من النظام الملكي
إلى الجمهوري، أو من السلطوية إلى الديمقراطية؛ وكثيرًا ما تكون المؤسات العسكرية
مسيطرة على النظام السابق، أو راعية للنظام الجديد. فماذا يحدث حينها؟ وكيف يتعامل
العسكريون والأنظمة الجديدة مع الوضع الذي تفرضه عليهم الثورات، أو التحولات
السياسية والاجتماعية الكبرى؟
إسبانيا: بعد رحيل الديكتاتور
وضعت الحرب الأهلية في إسبانيا (1936-1939) أوزارها بعد
ثلاث سنوات من المعارك، قُتل فيها أكثر من نصف مليون شخص؛ وتولَّى السلطة الجنرال
فرانكو – قائد «الوطنيين» المنقلبين عسكريًا على الحكومة المنتخبة – مدعومًا من
النظام النازي في ألمانيا، والنظام الفاشي في إيطاليا.
وجاء انقلاب فرانكو بعد خمس سنوات من تحوُّل إسبانيا إلى
النظام الجمهوري وإلغاء الملكية؛ ليُعلن نفسه حاكمًا للبلاد، ويفرض موجة عنيفة في
بدايتها، وممنهجة بعد ذلك، من القمع والقتل والتعذيب والاغتصاب لخصومه السياسيين،
كانت قوات الجيش طرفًا أساسيًا فيها. لم يكُن غريبًا أن يستمر فرانكو في الحكم حتى
وفاته في عام 1975؛ فقد أحكم قبضة دموية على السياسة، وترك الاقتصاد والتنمية
لحكومة من التكنوقراط؛ لكن قصتنا تبدأ بعد رحيل الديكتاتور.
يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة برشلونة رافائيل
مارتنيث إن الملايين من الرجال الإسبانيين قضوا جزءًا كبيرًا من حياتهم في تجنيد
إجباري تحت سيطرة الضباط الفاشيين المتسلطين، وفي ظل نظام مستبد؛ لذا ترسخت صورة
القوات المسلحة الإسبانية كأحد أركان النظام السلطوي، على العكس من بقية الجيوش
الأوروبية التي كان يُنظر إلى ضباطها باعتبارهم أبطالًا.
تسييس المؤسسة العسكرية وقادتها، وانخراطها في حرب دموية
ضد فئات واسعة من الشعب، بالإضافة إلى ضعف احترافية جنود الجيش لم تجعل أمام ملك
إسبانيا الجديد خوان كارلوس – الذي قاد تحولًا ديمقراطيًا شاملًا – غير إصلاح
الجيش بخطوات سريعة حتى لا يتعطل طريق الإصلاح الديمقراطي، وبناء المؤسسات المدنية.
صعد الجنرال مانويل ميلادو إلى قيادة الجيش بعد أشهر
قليلة من تنصيب الملك؛ وأعلن بوضوح في أول خطاب له التزام الجيش بحكم القانون؛
وجاءت كلماته واضحة أمام الجنود: «لا يجب أن ننسى أن الجيش، مهما كانت مهمته
مقدسة، ليس دوره الحكم، بل خدمة البلاد تحت إمرة الحكومة الوطنية.»
كانت قطاعات الجيش في عهد فرانكو منفصلة لا تجمعها
قيادة، تخضع إلى أوامره المباشرة، ولا وسيلة للترقِّي فيها غير الولاء للديكتاتور.
بدأت مهمة الإصلاح بعدة خطوات:
– الهيكل الدستوري والقانوني: إنشاء وزارة الدفاع لأول مرة؛
لتجمع قطاعات الجيش وأسلحته تحت قيادة موحدة، تعمل تحت الحكومة المدنية المنتخبة،
وإقصاء الجيش شيئًا فشيئًا من الحياة السياسية عبر تحجيم دوره الدستوري والقانوني،
وتقييد القضاء العسكري وسلطته على المدنيين.
– رفع كفاءة القوات واحترافيتها،
ومنع العسكريين من العمل في الوظائف المدنية
– تقليل عدد القوات واعتماد معيار الكفاءة في الترقيات بدلًا من الأقدمية.
– تحويل اهتمام القوات المسلحة إلى الوضع الإقليمي والدخول في
تحالفات عسكرية بدلًا من الوضع الداخلي.
لم تمر هذه الإجراءات دون معارضة من قادة الجيش الكبار
وداعميهم من السياسيين اليمينيين والفاشيين؛ فقد حاولوا أكثر من مرة تعطيل الإصلاح
الديمقراطي في البلاد، توِّجت بمحاولتي انقلاب فاشلتين في عامي 1981 و1982، لكن
العلاقات المدنية العسكرية في إسبانيا سارت بعدها بشكل جيد.
شهدت العاصمة الإندونيسية جاكرتا في مايو من عام 1998
تظاهرات حاشدة استمرت ثلاثة أيام؛ قررت القوات المسلحة خلالها عدم مواجهة
المتظاهرين، والبدء في إجراءات إصلاحية تضمن انتقال السلطة من الجنرال سوهارتو إلى
نائبه بطريقة سلمية.
كانت بوادر الانقسام في نظام الجنرال سوهارتو، الذي وصل
إلى السلطة بانقلاب عسكري، قد بدأت في الظهور قبل استقالته بأكثر من 10 أعوام؛ فقد
انقسمت قيادات الجيش، ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية طاحنة، وتزايدت الأصوات
المعارضة المطالبة بالديمقراطية، وعجز النظام عن حفظ الأمن وتفكك التحالف الحاكم؛
ليفسح الطريق لدخول البلاد في طريق الإصلاح الديمقراطي.
أقام الجنرال سوهارتو منذ وصوله إلى السلطة نظامًا
عسكريًا قمعيًا، كانت المؤسسة العسكرية في القلب من مسؤوليته عن تعزيز الطائفية
والصراع المجتمعي، ودمج الشرطة مع القوات المسلحة في مهامٍ وقيادة واحدة، وقمع
واختطاف المحتجين والمطالبين بالديمقراطية، واستغلال النفوذ، وانتهاكات حقوق
الإنسان، بالإضافة إلى الدخول في صراعات مباشرة مع أقاليم تتمتع بحكم ذاتي نسبي،
أو احتلال مباشر مثل تيمور الشرقية.
كانت هيئة القوات المسلحة الإندونيسية متحكمةً في كل شيء
خلال حكم سوهارتو: السياسة والاقتصاد والشرطة والإعلام؛ ولم يكُن تخليها عن
سوهارتو إلا وسيلة لحفظ وضعها القوي في البلاد.
بدأ إصلاح المؤسسات الأمنية في إندونيسيا على يد النخبة
نفسها من الجنرالات والعسكريين. وافق هؤلاء على عدة إصلاحات دستورية وقانونية، مثل
فصل الشرطة عن الجيش، وقطع علاقتها مع ذراعها المدني المتمثل في حزب سوهارتو، ومنع
العسكريين من تولي الوظائف المدنية أثناء خدمتهم، والوقوف على الحياد في انتخابات
1999، وحتى القبول بتقليل المقاعد المخصصة للجيش في البرلمان.
لكن هذه الإصلاحات المؤسسية لم تقترن برغبة حقيقية في
تغيير وضع الجيش على أرض الواقع؛ فحافظت المؤسسة العسكرية على استقلالها عن
الحكومة المدنية؛ ولم تتنازل عن نظام «الكوتر» الذي يجعل لكل وحدة إدارية مدنية
(من المستوى الوطني حتى مستوى القرى) وحدة عسكرية موازية؛ وحافظت على حصانة الضباط
المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان من الوقوف أمام محاكم مدنية؛ ولم يحدث تغيير يذكر
في سيطرة الجيش على قطاع كبير من اقتصاد إندونيسيا، ودخوله منافسًا في الكثير من
الأنشطة التجارية.
وصل العسكري ورئيس الوزراء السابق ثين سين إلى مقعد
الرئاسة في ميانمار (بورما) في عام 2011، بعد انتخابات اكتسحها حزبه بأغلبية
تجاوزت 90% من الأصوات. واقترنت الأشهر الأولى من رئاسته بوعود للإصلاح
الديمقراطي، ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية والهيئات الدولية التي رأت في
الجنرال السابق أملًا في الإصلاح ضد «الحرس القديم» في الجيش.
تمت بخطوات سريعة عدة إجراءات لتخفيف القيود على
المعارضة، بإطلاق حرية الإعلام نسبيًا، والسماح لأكبر حزب معارض باستئناف نشاطه،
وإطلاق سراح بعض المسجونين السياسيين، وإعادة حق الإضراب عن العمل في القانون.
سيطر على السلطة «مجلس الدولة للسلام والتنمية»، الذي
يُعد باختصار الهيئة العسكرية الحاكمة، منذ عام 1988، لكن الرئيس ثين سين حل
المجلس عند توليه الرئاسة. يبدو هذا تغييرًا هائلًا، لكن علاقات القوة بين أطراف
السلطة في ميانمار لم تتغير كثيرًا.
تتعرض الحكومة في بورما منذ عقود إلى محاولات للانفصال
والتمرد المسلح، لكن الرد يكون قاسيًا من الجيش بتدمير قرى كاملة، والدخول في حرب
عرقية في عدة مقاطعات، تشمل مسلمي الروهنجيا
سجل الجيش في ميانمار لم يتوقف عن إدخال حالات انتهاكات
حقوق الإنسان، واعتقال المعارضين والصحفيين وقتلهم، وتزوير الانتخابات البرلمانية
والمحلية لمصلحة «حزب اتحاد التضامن والتنمية» الذي خرج من رحم قيادة الجيش ليحكم
من خلاله، في ظل دستور 2008 الذي كتبته لجنة مُعينة من الجيش، واستُفتي عليه في
انتخابات وُصفت محليًا ودوليًا بالمزورة.
يحتفظ الجيش بـ25% من المقاعد في البرلمان، بحسب الدستور
الذي تقول أولى فصوله إن «هيئات الدفاع تشارك في دور القيادة الوطنية السياسية
للبلاد»؛ ويتكون مجلس الدفاع والأمن القومي في ميانمار من 11 عضوًا: 5 عسكريين
حاليين، و5 عسكريين سابقين، ومدني واحد. يعمل هذا المجلس فوق الحكومة المدنية،
ويمكنه إلغاء وتعديل قراراتها، وفرض شروطه عليها.
وتمتد سيطرة الجيش كذلك على وسائل الإعلام، والصحفيين
المستقلين، والمعارضين الذين يقعون دائمًا تحت تهديد الشرطة العسكرية.
ولم ينفصل النشاط الاقتصادي في ميانمار عن سيطرة المؤسسة
العسكرية؛ فأكبر شركتين قابضتين في البلاد مملوكتان للجيش بشكل مباشر، بالإضافة
إلى ملكية الجيش والعسكريين السابقين والحاليين للشركة المسؤولة عن استيراد السلاح.